فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا} على أصح القولين والمعنى جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به ويبينه قوله وجعلنا على قلوبهم أكنة آن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فأخبر سبحانه أن ذلك جعله فالحجاب يمنع رؤية الحق والأكنة تمنع من فهمه والوقر يمنع من سماعه وقال الكلبي الحجاب ههنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه ووصفه بكونه مستورا فقيل بمعنى ساتر وقيل على النسب أي ذو ستر والصحيح أنه على بابه أي مستورا عن الإبصار فلا يرى ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت والنسب في مفعول لم يشتق من فعله كمكان مهول أي ذي هول ورجل مرطوب أي ذي رطوبة فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب ومجروح ومستور. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
بَابُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا}.
{وَقَضَى رَبُّك} مَعْنَاهُ: أَمَرَ رَبُّك، وَأَمَرَ بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَأَوْصَى بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أَمْرٌ.
وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَقَالَ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحْسَانًا} وَقَالَ: {أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك إلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فَأَمَرَ بِمُصَاحِبَةِ الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ النَّهْيِ عَنْ طَاعَتِهِمَا فِي الشِّرْكِ لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ.
قَوْله تَعَالَى: {إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَك الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} قِيلَ فِيهِ: إنْ بَلَغْت حَالَ الْكِبَرِ وَهُوَ حَالُ التَّكْلِيفِ وَقَدْ بَقِيَ مَعَك أَبَوَاك أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.
وَذَكَرَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ إذَا بَلَغَا مِنْ الْكِبَرِ مَا كَانَا يَلِيَانِ مِنْك فِي الصِّغَرِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ بُلُوغَ الْوَلَدِ شَرْطٌ فِي الْأَمْرِ؛ إذْ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ غَيْرِ الْبَالِغِ، فَإِذَا بَلَغَ حَالَ التَّكْلِيفِ وَقَدْ بَلَغَاهُمَا حَالُ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ أَوْ لَمْ يَبْلُغَا فَعَلَيْهِ الْإِحْسَانُ إلَيْهِمَا وَهُوَ مَزْجُورٌ أَنْ يَقُولَ لَهُمَا أُفٍّ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الضَّجَرِ وَالتَّبَرُّمِ بِمَنْ يُخَاطَبُ بِهَا.
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} مَعْنَاهُ: لَا تَزْجُرْهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِمَا وَالْإِغْلَاظِ لَهُمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} قَالَ: لَيِّنًا سَهْلًا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} قَالَ: لَا تَمْنَعْهُمَا شَيْئًا يُرِيدَانِهِ.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا بِرُّ الْوَالِدَيْنِ؟ قَالَ: أَنْ تَبْذُلَ لَهُمَا مَا مَلَكْت وَأَطِعْهُمَا فِي أَمْرِك مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً.
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ عَنْ وَاصِلِ بْنِ السَّائِبِ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} قَالَ: لَا تَنْفُضْ يَدَك عَلَيْهِمَا وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ أَحَدَّ النَّظَرَ إلَيْهِ وَعَنْ أَبِي الْهِيَاجِ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ قَوْلِهِ: {قَوْلًا كَرِيمًا} قَالَ: قَوْلُ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ الْغَلِيظِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ الرُّصَافِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} قَالَ: يَدَاك لَا تَرْفَعُهُمَا عَلَى أَبَوَيْك وَلَا تَحُدَّ بَصَرَك إلَيْهِمَا إجْلَالًا وَتَعْظِيمًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الذُّلَّ لَيْسَ لَهُ جَنَاحٌ وَلَا يُوصَفُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمَا، وَهُوَ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقِيسِ فِي وَصْفِ اللَّيْلِ:
فَقُلْت لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ ** وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ

وَلَيْسَ لِلَّيْلِ صُلْبٌ وَلَا أَعْجَازٌ وَلَا كَلْكَلٌ، وَهُوَ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَكَامُلَهُ وَاسْتِوَاءَهُ.
قَوْله تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} فِيهِ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ بِالدُّعَاءِ لَلْوَالِدَيْنِ خَاصٌّ فِي الْمُؤْمِنِينَ.
وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ تَأْكِيدَ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ، فَقَرَنَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا إلَى الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ فَقَالَ: {وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْمُخَاطَبَةِ الْجَمِيلَةِ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ وَنَهَى عَنْ التَّبَرُّمِ وَالتَّضَجُّرِ بِهِمَا بِقَوْلِهِ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَنَهَى عَنْ الْإِغْلَاظِ وَالزَّجْرِ لَهُمَا بِقوله: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} فَأَمَرَ بِلِينِ الْقَوْلِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُمَا إلَى مَا يَأْمُرَانِهِ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْوَفَاةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَظَّمَ حَقَّ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ وَرَوَى أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رِجْلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّك قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّك قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّك، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوك».
قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} قَالَ سَعِيدُ بْنِ الْمُسَيِّبِ: الْأَوَّابُ الَّذِي يَتُوبُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كُلَّمَا أَذْنَبَ بَادَرَ بِالتَّوْبَةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ومجاهد: هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ ذَنْبِهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ.
وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْأَوَّابُ الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فِي الْخَلَاءِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا.
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ وَهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى فَقَالَ: «إنَّ صَلَاةَ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمَضَتْ الْفِصَالُ مِنْ الضُّحَى».
قَوْله تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» فَهَذَا الْحَقُّ غَيْرُ ظَاهِرِ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْبَيَان، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَقُّ هُوَ حَقُّهُمْ مِنْ الْخُمُسِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ قَرَابَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا لَهُمْ مِنْ الْحَقِّ فِي صِلَةِ رَحِمِهِمْ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ: هُوَ قَرَابَةُ الْإِنْسَانِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّهُ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: وَقَدْ قِيلَ: إنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْوَالِدَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْوَالِدَيْنِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، فَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ إيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى حَقَّهُ.
قَوْله تَعَالَى: {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الَّذِي يَلْزَمُهُ إعْطَاؤُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حَمْزَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ وَتَلَا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةُ».
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ: «إنَّ فِيهَا حَقًّا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمَنِيحَةُ سَمِينِهَا».
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالُوا: التَّبْذِيرُ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَنْفَقَ مُدًّا فِي بَاطِلٍ كَانَ تَبْذِيرًا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ يَرَى الْحَجْرَ لِلتَّبْذِيرِ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ إذْ كَانَ التَّبْذِيرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ مَنْعُهُ مِنْهُ بِالْحَجْرِ وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ إلَّا بِمِقْدَارِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْحَجْرَ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّبْذِيرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، فَهُوَ جَائِزُ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ وَبِيَاعَاتِهِ كَمَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ، وَذَلِكَ مِمَّا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، فَإِقْرَارُهُ وَعُقُودُهُ بِالْجَوَازِ أَوْلَى إذْ كَانَتْ مِمَّا لَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَخِوَانُهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ آثَارَهُمْ وَجَرْيِهِمْ عَلَى سُنَنِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُقْرَنُونَ بِالشَّيَاطِينِ فِي النَّارِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّك تَرْجُوهَا} الْآيَةُ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلِمْنَا مَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ مَسْأَلَةِ السَّائِلِينَ لَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَذِي الْقُرْبَى مَعَ عَوَزِ مَا يُعْطِي وَقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِينَا، فَقَالَ: إنْ أَعْرَضْت عَنْهُمْ لِأَنَّك لَا تَجِدُ مَا تُعْطِيهِمْ وَكُنْت مُنْتَظِرَ الرِّزْقِ وَرَحْمَةً تَرْجُوهَا مِنْ اللَّهِ لِتُعْطِيَهُمْ مِنْهُ فَقُلْ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَوْلًا حَسَنًا لَيِّنًا سَهْلًا فَتَقُولُ لَهُمْ يَرْزُقُ اللَّهُ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ.
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَك مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِك وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: لَا تَبْخَلْ بِالْمَنْعِ مِنْ حُقُوقِهِمْ الْوَاجِبَةِ لَهُمْ.
وَهَذَا مَجَازٌ، وَمُرَادُهُ تَرْكُ الْإِنْفَاقِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُهُ مَغْلُولَةٌ إلَى عُنُقِهِ فَلَا يُعْطِي مِنْ مَالِهِ شَيْئًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَصِفُ الْبَخِيلَ بِضِيقِ الْيَدِ فَتَقُولُ: فُلَانٌ جَعْدُ الْكَفَّيْنِ، إذَا كَانَ بَخِيلًا، وَقَصِيرُ الْبَاعِ وَيَقُولُونَ فِي ضِدِّهِ: فُلَانٌ رَحْبُ الذِّرَاعِ وَطَوِيلُ الْيَدَيْنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِسَائِهِ: «أَسْرَعُكُنَّ بِي لَحَاقًا أَطْوَلُكُنَّ يَدًا».
وَإِنَّمَا أَرَادَ كَثْرَةَ الصَّدَقَةِ، فَكَانَتْ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَكْثَرَهُنَّ صَدَقَةً وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا إنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ سَوَامَا ** وَلَكِنْ كَانَ أَرْحَبَهُمْ ذِرَاعَا

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} يَعْنِي: وَلَا تُخْرِجْ جَمِيعَ مَا فِي يَدِك مَعَ حَاجَتِك وَحَاجَةِ عِيَالِك إلَيْهِ {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} يَعْنِي: ذَا حَسْرَةٍ عَلَى مَا خَرَجَ مِنْ يَدِك.
وَهَذَا الْخِطَابُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَدَّخِرْ شَيْئًا لِغَدٍ وَكَانَ يَجُوعُ حَتَّى يَشُدَّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمِيعَ أَمْلَاكِهِمْ فَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصِحَّةِ يَقِينِهِمْ وَشِدَّةِ بَصَائِرِهِمْ، وَإِنَّمَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْإِفْرَاطِ فِي الْإِنْفَاقِ وَإِخْرَاجِ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ يَدُهُ مِنْ الْمَالِ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْحَسْرَةُ عَلَى مَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ فَأَمَّا مِنْ وَثِقَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ فِيمَا أَنْفَقَهُ فَغَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْت هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ وَاَللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَادَ ثَانِيًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ ثَالِثًا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَمَى بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَعَقَرَتْهُ، فَقَالَ: «يَأْتِينِي أَحَدُهُمْ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ».
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ هَيْئَةٌ رَثَّةٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَأَمَرَ الرَّجُلُ بِأَنْ يَقُومَ فَقَامَ، فَطَرَحَ النَّاسُ ثِيَابًا لِلصَّدَقَةِ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، ثُمَّ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَطَرَحَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُنْظُرُوا إلَى هَذَا أَمَرْتُهُ أَنْ يَقُومَ لِيُفْطَنَ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَأَعْطَيْتُهُ ثَوْبَيْنِ ثُمَّ قَدْ طَرَحَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ قَالَ لَهُ: خُذْ ثَوْبَك» فَإِنَّمَا مَنَعَ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ مِنْ إخْرَاجِ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ.